|
|
|
براءة بطعم العلقم
يوسف عبدلكي 2015
تغريك لوحة ياسر صافي بأن تمد يدك وتلعب بألوانها، تغريك بأن تمد يدك وتضيف لوناً أحمر هنا أو رمادياً هناك... تحس دائماً بأنها لوحة قيد العمل... تفتح شهيتك للهو مع أطفالها الشرسين. طزاجتها تكسر الحواجز بينك وبينها، كقبلة بين اثنين تعارفا للتو.
بدأ صافي أثر دراسته في كلية الفنون الجميلة عام 1997 بإنجاز قطع حفر على قدر كبير من القسوة الخطيّة والصرامة البنائية، يضاف لهما حلولاً مؤسلبة للأيدي والأقدام والأشخاص! غير أنه ومع الأيام راحت علاقته بالسطح ترتاح... وهو ما قاده تدريجياً الى أن يحرر أشكاله و خطوطه من تقطيبة حواجبها! وهكذا أضحينا بعد عدة سنوات أمام مفردات مشابهة لمفرداته غير أنها تومي بإشارات ودودة؛ كإشارات طالبة بكالوريا وجدت فجأة شاباً وسيماً على المقعد المقابل.
مرت سنوات أخرى، وبدأت طزاجة التصوير المباشر تغريه بعيداً عن الحفر وأناة تقنياته، فراح يدعك ألوانه على سطح القماش محرراً أكثر أشخاصه، وتعابير، وجوههم، وحركات أيديهم، بحيث تحولت اللوحة لديه الى كرنفال من الشخصيات العبثية النشوانة بألوانها.
لكنه كما لم يكن مخلصاً لأشكاله الغرافيكية الأولى، لم يكن مخلصاً أيضاً لأشخاصه وصخب ألوانهم... أي خوّان هو!
وهكذا بدأت التعابير الطفولية تتسلل بين دفء هذا اللون وقسوة اللون الذي يجاوره، وتدريجياً راحت لوحته تغرق في طفولتها؛ والأصح راحت تغرق في طفولته، كأن هذا الشاب الكبير اكتشف على حين غرّة أنه كان طفلاً ذات يوم، وأن طفولته تلك لم تشبع رسماً وشخبطة على الدفاتر والجدران، فراح يستعيد ذلك كله بلطف الأطفال حيناً وبمشاكساتهم العدوانية في أغلب الأحيان.
غير أن عفوية الأشكال والألوان والتراكيب هي خداع حقيقي، فأشخاصه ليسوا على ذاك القدر من البراءة، وألوانه ليست من العفوية في شيء كما تريد أن توهمنا... بل إن كل ما يجري أمامنا أشبه ما يكون بخشبة مسرح، والأطفال ما هم إلا دُمى مربوطة بخيوط خفيّة الى هواجس الرسام وأفكاره الأكثر سلاطة وعنفاً... وهكذا كلما أوغل القتل العبثي في الانتشار كلما أصبحت تلك الدمى أكثر شيطانية؛ وكلما اقتحمت مفردات جديدة الحياة حولنا، كلما وجدنا في لوحات ياسر ظلالاً لها: شبيحة، هيلكوبترات، براميل متفجرة، خوذ... ومسدسات محشوة كل الوقت... إلخ.
انفجرت لوحة ياسر صافي في السنوات الأخيرة، مع كل ما تفجّر في سورية، أصبح كل ما فيها لا يمت لصرامته السابقة ولا إلى "أصول" العمل الفني بصلة! أصبحت حقلاً من عنف الألوان وعنف الأشخاص وتبعثر الكتل! ووحشية الخطوط والبقع، كل ذلك يقال بلغة تحسبها للوهلة الأولى لغة الطفولة! لكنها طفولة غادرتها البراءة الى الأبد. كأنها طفولة الأطفال السوريين اليوم أمام بيوتهم المهدمة بالقصف، وجثث آبائهم المرمية في الشوارع، وذل معسكرات الذل في دول الجوار.
مثلما تُطلق النار اليوم على البشر والأطفال والبراءة والمستقبل، فإن لوحة صافي تُطلق بدورها النار على الإتقان، والرهافة، واللون المضيء، والخط الرصين... وتمضي بعيداً في التعبير المنفلت من المقاييس!!
إلى أين يمضي؟
لا أحد يعرف. هو نفسه لا يعرف. يعرف فقط أن يكون مخلصاً لنفسه، فاتحاً ذراعي لوحته على أوجاع الناس وضياع حياتهم...
|
|
|